محمد علاء الدين عبد المولى
قيل الكثير من الكلام، نقداً وهجاءً ومدحاً وتكريماً وتسفيهاً، عن الشاعر نزار قباني، ومن المؤكد لدي أنه سيقال كثيرٌ في المستقبل أيضاً. فما الذي يستطيع القارىء الناقد تقديمه من أفكارٍ جديدةٍ في هذا الصدد ؟.
لهذا ودون تكرارٍ لمقدماتٍ وشروحٍ تمهيديةٍ، متوفرة لمن يحتاجها، سأحاول هنا بناء عددٍ من الأفكار التي أراها أساسيةً في هذا المجال، من خلال مواصلتي لتفكيك الصورة النمطية المرتسمة في وعي النقد العربي من جهةٍ، وفي وعي أو لا وعي المتلقي، (أو الجماهير) بالتعبير الذي لا أستسيغه، من جهة أخرى.
من ملامح التجديد في علاقة شعر نزار قباني بالمرأة
قدم نزار تجديداً واضحاً في علاقة الشاعر العربي بالمرأة. وذلك عندما ننظر إلى وضع المرأة/الأنثى في الشعر العربي قبل نزار، وكيف كانت تتمظهر كموضوعٍ فني من جهة وكموضوع بشري من جهة ثانية. فالشعر العربي يقدم لنا نماذج من المرأة نرى أنها لا تختلف أو تتباين كثيراً بين شاعرٍ جاهلي أو عذري، إلى شاعر حسيٍ إلى آخر صوفي؛ فإن كل هذه النماذج وفي غالبيتها، تقدم المرأة/الأنثى بصورةٍ غائمة وضبابيةٍ، بحيث تظهر وكأنها شيءٌ أو موضوعٌ لا ملامح ولا علامات فارقة له، وبلا طعمٍ ولا رائحة، ولا يمكن للمتلقي تخيل وجود المرأة بصورةٍ ملموسة ومدركة. إذ ثمة فجوةٌ حادةٌ بين صورة المرأة الحقيقية كما يتعايش معها الإنسان، وصورتها الشعرية المفارقة للواقع. وكان هذا يشكل ظاهرة عامةً من الطبيعي أن يكون لها استثناءات كالعادة، وهي استثناءات كانت تحقق بعض الاختراقات الهامشية التي لم تصنع ظاهرة بديلة وموازية (على سبيل المثال نذكر بعض أشعار امرىء القيس - القصيدة اليتيمة)، ليظل النموذج السائد هو امرأةٌ حبيبةٌ ينشئها الشاعر كتلةً ضبابية تتشابه في سماتها ومفردات تكوينها. فليس هناك فرق جوهري بين " فاطم امرىء القيس " أو " خولة طرفة " أو " أسماء الحارث اليشكري " أو نساء عمر بن أبي ربيعة أو ليلى أو... الخ. والغريب أن تمتد هذه الصورة النمطية حتى عصور لاحقة وصولا إلى أحمد شوقي وإبراهيم ناجي والشابي على سبيل المثال، وهذا ما سوف نأتي فيما بعد على ذكره ثانيةً مستشهدين برؤية نزار نفسه للمسألة...
تطالعنا هنا صورة امرأةٍ لا تفاصيل لها، ولا إحساس ولا كيانٌ مستقل، ولا نعرف عنها إلا ما يريد الشاعر أن ينقله إلينا، وما علينا إلا تصديقه. وما الأمثلة القليلة التي يمكن أن تشكل خروجاً على هذا النمط إلا دليل على أنه هو النمط القاعدة، والمتوارث من جيل إلى جيلٍ. فهي الجميلة دون أن نعرف كيفية جمالها، وهي شهيةٌ دون أن تظهر إلا صدى لشهوة الشاعر، وكأنها أنثى محجبةٌ مضروبٌ عليها خمار مع أنها موضوع للحب والغزل والجنس كذلك.
وكان ذلك أمراً يبعث على التساؤل والحيرة حقا. خاصة إذا دقق قارىء التراث في نصوص النثر والسرد العربيين، وكتب (الإيروتيكا) التي كانت تمعن في قراءة الجسد وأحوال الجنس وأوضاعه، كتب لم تترك شيئا في المرأة إلا واخترقته من لباسها حتى عطورها ورقصها ومشيتها وأصنافها وسوياتها الاجتماعية والبيئية والثقافية، وما يتعلق بالشهوة والعلاقة الجسدية بأدق تفاصيلها.
إضافة إلى أن القارىء الذكي للتراث سوف لا يعدم وجود بعض نصوص هذا النثر والسرد مشتملةً على الكثير من الإشارات الحسية الواقعية التي تصف خارطة الجسد الأنثوي، وخاصة في المروية الطويلة (ألف ليلة وليلة) التي نجد جسد المرأة فيها وقد اتخذ حضوراً أنثويا حادا وأساسيا ومركزيا، عبر تقديم هذا الجسد الأنثوي لنفسه في علاقته مع الجمال والإغراء والعطور والحمامات واللباس الأنيق والمثير والنطق المموسق والرقص الموظف، وعبر التركيز على صفاته الجريئة باللون والحركة والأعضاء.
كما يفصح البعض الآخر من النثر العربي الذي يسرد وقائع الحياة في العصرين الأموي والعباسي، وخاصة حياة ليالي الخلفاء والأمراء والولاة في سراديب قصورهم وأسرار معيشتهم وبساتين القصف واللهو، أقول يفصح هذا النثر عن امرأةٍ من لحمٍ ودمٍ حارين، امرأة ما هي إلا انعكاس أمين للصورة المرتسمة للأنوثة في المخيلة والذهنية العربيتين، وهي صورة كانت تنتقل من الواقع إلى هذه المخيلة، أو لنقل إنها صورة تتناوبها لحظتا الواقع والمخيلة في الوقت نفسه في علاقة متبادلة تأخذ هذه من تلك وتعطيها في الوقت ذاته، أي لم تكن هذه الصورة من إنشاء الخيال وحده بل من تأثير الواقع.
هل هناك مبررٌ واضح ومقنع لغياب جسد المرأة وتفاصيلها وجمالها ببعده الجسدي والشهواني عن القصيدة العربية؟ هل نقول إنه تعالي الشاعر العربي، حتى لو كان يصنف على أنه شاعر الجسد والغزل والتشبيب، تعاليه عن تعرية جسد المرأة أمام الآخر؟ وكأن المسألة تتعلق بتناقضٍ بين شبق الشاعر مع امرأته، وبين رغبته في (حجب) هذه المرأة عن المتلقي؟ إن ذلك منع الشاعر من إعطاء أنثاه بعداً حيايتا واضحاً يضاف إلى البعد الغائم أو البعد الروحي لها، أو على الأقل يحقق انسجاما بين المرأة وبين تهافت الشاعر عليها وتهالكه الشبقي أمامها وهو مما يظهر جلياً في القصيدة العربية...
أم نبحث عن السبب في مكان آخر؟ فنقول إن المرأة العربية في واقعها المعاش كانت امرأة غير مكشوفة الجسد، محجوبةً بطبيعتها ونظرا لكونها عضوا في مجتمع قبلي ذي منظومة أخلاقية لا تسمح لها ولا تقبل هي كذلك، أن تكون الخروج على النمط المعطى لها، لهذا لن تتكشف تفاصيل هذا الجسد إلا من خلال ما هو متاح ومتناغم مع الأخلاق القبلية والتي كرسها فيما بعد الدين. والمدقق في صورة المرأة سيرى أن الشاعر لم يقصر في التركيز على أي عضو مكشوف من جسدها، من هنا سنفاجأ بهذا الكم الهائل من الصور المتعلقة بعيون المرأة، وحركة مشيتها المتثاقلة من وراء ثيابها المتموجة على امتلاء جسدها. إنها امرأة محجبة في الواقع، لهذا حجبت في القصيدة. على أننا لا نبرىء بهذا تقصير الشاعر العربي على الصعيد الفني البحت، في مسألة الاقتحام وتكسير هذه الصورة،لأن الشاعر لا يقف عند المعطيات المسلم بها في الواقع، ويتجاوزها ويبتدع واقعا آخر يسهم في تثوير الصورة المألوفة للمرأة. لا سيما وأن هذا الشاعر العربي لم تكن تنقصه أبدا المقومات الفنية والجماليات الفذة في التقاط تفاصيل الجسد وتعريته جزءاً جزءاً، والمثال على ذلك ما كان يفعله في قصيدة الناقة، من وصف دقيق ومطول لكل ما يتعلق بجسد الناقة وجمالها. لقد ترك لنا الشاعر العربي صورة جميلة جدا عن الناقة، عارية مكشوفةً لا لبس فيها، وترك لنا بالمقابل صورة غائمة لا تفاصيل فيها عن المرأة. وربما من هنا جاء هذا المعجم الهائل من التشبيهات والاستعارات المأخوذة من جسد الناقة والمسقطة على جسد المرأة، كحالةٍ تعويضية عما احتجب من جسد المرأة. إذ نقل صفات جسد الناقة من حقله الواقعي الأصلي إلى حقلٍ آخر اكتسب من خلاله روحا جديدة وقدرة على التصوير.
هذا وقد يحق لنا السؤال بصورة ثانية وعلى مستوى آخر فنقول: لماذا لم نجد هذه المرأة في الشعر العربي إلا كما ذكرنا، بينما وجدناها متوفرةً بصورة أخرى ومختلفة في النثر العربي؟ هل كان النثر أقدر فنيا وجماليا على تلبية هذه الحاجة؟ من حيث أن مفهوم الشعر كان يقتضي التعامل مع المسائل بشكلٍ شمولي وكلي ومطلقٍ وليس بشكلٍ تفصيلي، الأمر الذي كان متاحاً للنثر الذي شكل غالبا خطا هامشيا مقصيا عن سلطة الخطاب الثقافي المطلقة؟ أقول وفي حدود معرفتي، إن هذا السبب ربما لم يكن بعيداً عن خلفية هذه المسألة، والتي شكلت ثغرة كبيرةً اكتشفها نزار قباني من خلال قراءته للشعر العربي عبر مصادره الكبرى، فأدرك الثغرة في نظرة الشاعر العربي إلى المرأة، فكان هو أول شاعر عربي، في زعمي، ينقل العلاقة مع المرأة في الشعر إلى فضاءٍ مبتكرٍ وأرضٍ غير محروثةٍ من قبل، مقترباً بذلك من المحرم الاجتماعي والفني في الوقت نفسه.
لقد أطاح نزار منذ تجاربه الشعرية الأولى – وهذا المهم، أي أنه وعى ذلك باكراً – بتمثال المرأة وأسقط عنها كل قناعٍ وحجابٍ ممكنٍ، ليظهرها على أنها جزء من حياتنا التي نعيشها ونعانيها، لا فكرةٌ قائمةٌ في مخيلتنا المكبوتة فقط. وبهذا اقترب من تفاصيلها ونثرياتها ولغتها اليومية، وكانت هذه الثورة بحاجة إلى مصاحباتٍ فنيةٍ تسهم في إنجاز قصيدةٍ ذات جمالياتٍ مختلفةٍ ومحرضةٍ، لذلك جاءت لغة نزار جديدةً ولا تخضع لا لمألوف المتلقي العربي العادي، وأعرافه المستقرة، ولا تخضع كذلك للنمط الشعري المتداول بين أوساط الشعراء.
إذا من هنا أشرنا إلى اقتحامه للمحرمين الاجتماعي والفني معاً، ولم يكن اقترابه من لغة الحياة اليومية والبعيدة عن المطلقات والكليات إلا سببا جوهريا من أسباب عداء المجتمع الذكوري المقدس في بعديه الديني والثقافي للشاعر، ولمغامراته التي قرب فيها لغة الشعر من لغة النثر، مكملا بذلك الوظيفة التي كان النثر العربي يقوم بها من توصيفٍ خارقٍ ومدهشٍ ومحرجٍ للجسد الأنثوي.
والمجابهة الاجتماعية العنيفة التي ووجه بها نزار قد تكون دليلنا على أن الشاعر العربي عندما يقترب من عراء المرأة وجغرافية جسدها كاملةً، فكأنه يخترق القانون الاجتماعي والديني، أو بتعبيرٍ آخر، كأنه يتجرأ فيعلن على الملأ تلك الصورة الحقيقية للمرأة التي نتستر عليها جميعاً. والمسألة في منشئها الفني تصبح على الشكل التالي: لقد أنزل نزار الشعر من عليائه وميتافيزيقيته وما ورائياته الضبابية المتعلقة بالمرأة والجسد، إلى الأرض ليلتقط لنا المرأة وهي على التراب وفي حياتها اليومية لا المرآة القائمة في ذهن الشاعر وتهويماته. وهذا كان يقتضي من اللغة الشعرية أن تتغير، وتبحث لها عن احتمالاتٍ أخرى جديدة لم تكن في حسابات الشاعر العربي. من هنا كان لا بد للغة الشعر أن تتوسل بلغة النثر من حيث قدرة هذا الأخير على تحقيق المهمة الجديدة للشاعر، وهي تحويل الموضوع المطلق إلى موضوع نسبي. أي ترحيل المرأة من هلاميتها إلى تعينها الملموس المحسوس لا على أنه نمط عمومي يشترك في تداوله الشعراء كلهم، بل على أنها امرأة تخص تجربة شاعر ما بعينه، وتمتلك ما يميزها عن امرأة تخص شاعرا آخر. وهذا ما لم يكن يحدث عبر تاريخ الشعر العربي كما أزعم.
وفي هذا الصعيد يمكن لي أن أسجل ريادةً للشاعر نزار في التفاته لتوظيف النثر في الشعر، وهي المسألة التي تنشغل بها الآن كتابات نقدية أو تجارب شعرية على رأسها محمود درويش، الذي أجد أنه يكمل بطريقته وحسب فرادة مشروعه الشعري ما كان نزار يفعله بكل عفوية من استثمار للنثر داخل القصيدة الشعرية، حيث رأينا في قصيدة نزار لأول مرة في اتلشعر العربي هذا الكم من التفاصيل اليومية الهامشية والدقيقة والتي تعيش في الظل والعتمة، في الوقت نفسه كانت قصيدة نزار تستحضر هذه التفاصيل دون كثيرٍ من البلاغة التقليدية العتيدة والمعهودة في الشعر العربي، لأنها بلاغة تتنافى مع طبيعة النثر اليومية. ولا ندري – أو لعلنا ندري - فربما كان هو الآخر – أي نزار – يكمل بوعي أو لا وعيٍ منه، مسيرة النثر العربي الذي تحرر من قيود العروض والإنشاد في البلاط والمحافل الدينية والرسمية.
والحقيقة أن المسألة عند نزار في كل الأحوال، لم تكن هوايةً يمارسها في أوقات الفراغ، أو خاطراً يرد على ذهنه أوقات القيلولة، بل كانت مشروعاً مركزيا في تجربته الشعرية، بحيث أزعم أن نزاراً قام على هذا الصعيد بثورةٍ حقيقية في الشعر، ثورة لـه فضل الريادة المطلقة فيها ولا ينازعه فيها أي منازعٍ.
لقد كسر نزار النمط الشعري المتكلس في تعامله مع المرأة بكل حياتها، جسدا وتفاصيل وأسراراً وتناقضات وخيانات وشبقا وشذوذاً، مما كان يتطلب منه كسرا للنمط الجمالي للقصيدة والمهيمن على ذهن المتلقي العربي. بحيث تم إخراج بلاغة الشعر وصورته ومجازه واستعاراه وتشبيهاته وكناياته ومعجمه، من منطقة إلى منطقة جديدة حديثة.
وإذا كان الأمر بحاجة إلى أمثلة فشعره كله أمثلة على ذلك. لأنها لم تكن كما قلت مسألة موضوعات يقترب منها بين مرحلة وأخرى، وإنما كان شعره قائما على هذه النظرة التجديدية. ومع ذلك، ومن أجل ضرورة القراءة النقدية، نستأنس بالأمثلة التالية:
يقول في أول ديوان له:
سيري.. ففي ساقيك نهرا أغان
أطرى من الحجاز.. والأصبهاني
بكاء سمفونيةٍ حلوةٍ
يغزلها هناك قوسا كمان
ويقول في ديوان آخر:
ألوان أثوابها تجري بتفكيري
جري البيادر في ذهن العصافير
ألا سقى الله أياماً معطرةً
كأنهن.. أساطير الأساطير
أين الزمان؟ وقد غصت خزانتها
بكل مستهتر الألوان معطور
فثم رافعةٌ للنهد.. زاهيةٌ
إلى رداءٍ، بلون الوجد مسعور
ويقول:
حبيبي
أخاف اعتياد المرايا عليك
أخاف اهتمامي بشكل يديك
أخاف اعتياد شفاهي
مع السنوات على شفتيك
أخاف أموت
أخاف أذوب
كقطعة شمعٍ على ساعديك
فكيف ستنسى الحرير
وتنسى
صلاة الحرير على ركبتيك
أضطر لذكر أمثلة مبكرة من تجربة الشاعر لأن النقلة النوعية الفريدة تحققت في مرحلته الأولى، ثم وفي المراحل التالية سرعان ما أصبح الأمر منجزاً وسمةً أساسية من سمات المشروع النزاري. الذي أصاب الشعر العربي بعدواه بطريقة أو بأخرى.
إن اللغة التي تعلن عن نفسها في الأمثلة السابقة هي لغة لن نجدها عند شعراء عاصرهم نزار في شبابه، ولو رحنا نقرأ في شعر صلاح لبكي وسعيد عقل على سبيل المثال لرأينا اللغة تتناول المرأة من علٍ وتتأبى على جسدها وتفاصيله، مكملة بذلك المعجم الشعري الموروث من مئات السنين.*
ويكفينا أن نستحضر قصيدة (المجدلية) لسعيد عقل، ونتفحص المرأة التي فيها، لنرى كيف يقف موضوع القصيدة الحقيقي وهو الأنثى الآثمة المجدلية، يقف على طرف نقيض من لغة التعبير التي استخدمها سعيد عقل، فمع أن موضوع (المجدلية) يحتمل كثيرا من الشغل على الجسد في بعده الحسي الشهواني، مع ذلك تعفف سعيد عقل عن أن يكون شعره حسيا شهوانيا يهتم بجسد المرأة التي يتخذ منها مادة لقصيدة جميلة ومتميزة.
الأمر لن يكون على هذا النحو مع نزار قباني، ونحن نختار سعيد عقل أنموذجاً نظرا لما يعنيه اسمه من دلالة شعرية ورمزية كبيرة ولا تضاهى، فاسمه يغنينا عن الاستشهاد بشعرات الأمثلة، ثم إن سعيد عقل هو الشاعر الذي تأثرت بدايات نزار قباني ببعض جماليات شعره ومعجمه اللغوي، ولكن نزاراً حدد خياره على النقيض من خيار سعيد عقل، على صعيد لغة الجسد.
وعبر هذه الثورة التي أشرنا إليها سنرى المرأة/الأنثى وقد انزاحت الضبابية عن وجودها، فأصبحت مرئيةً مكشوفةً بصورة لم يسبق لها مثيلٌ. ويمكن لي ربط ذلك بنزعة التمرد والثورة التي تبلورت وتأسست عليها شخصية الشاعر نزار قباني، التمرد الاجتماعي الثقافي من جهة، والتمرد الفني من جهة ثانية وهذا هو الأهم. وهو ما سوف نرى الشاعر يؤكد عليه مراراً. ولكن رأينا أنه يمكن تفريع ملاحظة نقدية عن هذا الجانب الفني في شخصية الشاعر، وهي تتعلق بارتباطٍ ما نراه قائما بين وضوح جسد الأنثى بتفصيلاته ومخفياته وأسراره، وبين موهبة الرسم التي كان نزار يمارسها وهو طفل، والتي يعترف هو بفشله في تطويرها كموهبة، مما اضطره لنقلها بصورة شعورية ولا شعورية إلى الشعر، فبدأ يعوض موهبة الرسم باللون بموهبة الرسم بالكلمات، الأمر الذي تطلب منه الدمج بين تقنيتي اللغة المكتوبة واللغة الملونة في الوقت نفسه. فالرسم يأخذ الشاعر إلى جهة التفصيلات الدقيقة والمنحنيات المرئية واللامرئية في جسد المرأة، ويملي عليه استخدام خطاب اللون حتى آخر طاقة ممكنة، مما استوجب كذلك أن يظهر المرأة بألوانها من أظافر قدميها حتى ضفيرتها مرورا بألوان ثيابها الداخلية من مايوه وحمالة نهد إلى آخر التفصيلات والموجودة بغزارة في شعره.فأصبحنا نرى للمرة الأولى أشياء المرأة ومشاعرها وأسماءها وهي ملونة. حتى أنني أستطيع إعطاء نزار ميزة استخدام اللون على الطريقة الرمزية بحيث يوحي كل لون بمسألة حسية أو وجدانية معينة. إن النهد عند نزار يبدو تارة نهدا فلياً وتارة حريريا، وتارة ثالثة أسمر،ومرة أخرى ذهبيا. كما نرى عنده الشفاه ليست فقط قرمزية أو خمرية بل قد تكون شفته هو كالمزارع الخضر (وهذا استخدام جديد وفريد للون الأخضر في علاقته بشفاه الرجل)!. كما نرى عنده الدمع أسود والمطر أسود، أو الضوء الأسود في العين الإسبانية، أو نرى شوارع غرناطة في الظهيرة حقولاً من اللؤلؤ الأسود، ونرى الثلج أسود والسماء سوداء، حتى أنه يرى الجسد الخمري أسود! ونرى صوت المرأة أبيض وكلامها أبيض وشعورها أبيض. ويقول لها في موقع آخر ( أنت لي رحمة من الله بيضاء). وقد نرى عنده الصوت أزرق، والدم بنفسجيا والبحر شالاً بنفسجيا. وقد ترقص الكلمات عنده بأثواب مختلفة من اللون الأحمر إلى الأصفر. وقد تغزل يد الأنثى شمعا أصفر.
ارتبط تلوين الجسد وأشيائه وأحاسيسه عند الشاعر بعلاقات حسيةٍ شبقية مع الجسد كان اللون يقوم بوظيفة فعالة في صياغة هذه العلاقات.وهو بذلك لم يكن يتوهم الأنثى أو جسدها، إذ أنه لم يتعامل معها من خلف حجاب، بل فاجأها وهي في أدق وأحرج الأماكن والوضعيات مسلطا عليها كل ما يملك من ضوء فاضح ومتلونٍ...
وأريد أن أشير هنا إلى عدد من النقاط تتعلق بالمرأة في شعر نزار قباني، وهي نقاط اعتدنا أن نراها ملتبسةً على النقد الذي توجه إلى شعر نزار وما يزال حتى هذه اللحظة تلتبس عليه الأمور.
1ـ لم يكن نزار في هذا الاستخدام الفاضح للمرأة/الأنثى يقلد أحداً من شعراء العرب القدماء، ولا يمكن للمدقق أن يرجع شعره إلى أي شاعر بعينه في التراث العربي، فما كان يصنعه كان جديدا بصورة مطلقة في ظني، وكان هو مدركا لذلك، رافضا في عدد كثير من المواقع في شعره ونثره أن يحيله النقد أو القراء إلى أي شاعر عربي، خاصةً عمر بن أبي ربيعة الشاعر الذي اعتاد النقاد على إرجاع شعر نزار إليه.فعلى سبيل المثال يقول:
إنني لم أرث حبيباتي
عن عمر بن أبي ربيعة
ولا عن سواه من الشعراء الغزليين
فأنا أعجن نسائي بيدي، كفطائر العسل
وأسبكهن في مختبري، كدنانير الفضة