ويقول في كتاب (عن الشعر والجنس والثورة):
(( أرفض القول أنني أنقل عن الذاكرة الشعرية العربية، أو أية ذاكرة أخرى. إنني بهذا المعنى شاعر مصابٌ بفقدان الذاكرة. منذ بداياتي حاولت أن أخرج على الأنموذج الشعري العام في الغزل العربي. فمن خلال قراءاتي الشعرية تنبهت إلى شيءٍ خطيرٍ، وهو أن كل الحبيبات في الشعر العربي هن واحدة. إن حبيبة جرير هي نفسها حبيبة الفرزدق، وحبيبة أبي تمام، وحبيبة الشريف الرضي، وحبيبة أحمد شوقي، وخليل مطران، وسامي باشا البارودي. ومقاييس المرأة الجسدية كانت هي الأخرى واحدة. والانفعال بجمال المرأة كان دائماً صحراويا، بمعنى أن أمير الشعراء شوقي لم يستطع أنه يتحرر، وهو في باريس، وإسبانيا، وجاردن سيتي، والزمالك، من رنين خلاخيل البدويات ووشمهن، وكحلهن، وأوتاد خيامهن.
كانت هذه الحقيقة ترعبني، لذلك أردت أن أدخل إلى الشعر العربي من بابٍ آخر، وأن أطرح عشقي الخصوصي على الورق دون استعارة عشق الآخرين.الحب الذي كتبت عنه ،هو حبي أنا، ومعاناتي أنا، والأبجدية التي اعتمدتها في الكتابة عن هذا الحب هي أبجديتي أنا. إنني أول شاعر دخل إلى غرف الحب الضيقة، ورسم أشياء العشق المعاصرة بدقة عدسة تصوير. وأنا أول من أدخل تفاصيل العشق اليومية في الشعر (الجرائد، الكتب، الستائر، منافض الرماد، أدوات الزينة المعاصرة، المقهى، المرقص، ثياب الاستحمام، العطور، الأزياء...الخ) ومن هنا أعترض على كلمة ذاكرة، لأنني، على حد تصوري، كنت أحاول أن أسجل علاقات الحب في عصري، بطريقتي الخاصة، بحيث اتفق أكثر من ناقد على القول: إن شعري هو وثيقة اجتماعية للحياة العاطفية بين الجنسين خلال الثلاثين سنة الأخيرة))
2ـ عندما كشف نزار عن جسد المرأة واقترب من حالات هذا الجسد الإنسانية كما هي على أرض الواقع من جنس وعواطف مكبوتة أو معبر عنها إلى شذوذ وقمع عاطفي إلى أمومة وخيانة ودعارة... الخ، فإنه لم يكن ليقدم نفسه على أنه شاعر إباحي. بمعنى أنه إذا أباح استخدام اللغة الجسدية الجريئة والمقتحمة لأبواب الطوطم الجنسي والاجتماعي فإنه لم يكن يبيح جسد المرأة، بل سأقول إنه ليس في شعره جملة واحدة أو موقف واحد ولو كان عابراً يدل على أنه شاعر إباحيٌ، وهو لا يحقق ـ فيما كتبه من عراء وشبق وجنس وحب ـ شروط الأدب الإباحي. إن هناك في العمق والجوهر فرقا أساسيا ومحوريا بين خطاب الجسد الجريء والصريح وبين استباحة هذا الجسد، بل على العكس إن نزارا في غيرته على المرأة/الأنثى الحبيبة والصديقة يظهر أنانيا وشرسا في الدفاع عنها له وحده. وإذا كان شعره يدخل في باب الأدب الجنسي فليس كل ما هو جنسي إباحيا أبداً.
3ـ المرأة في شعر نزار ليست رمزاً لأي شيء. والذي يحدد وجودها وقيمتها في القصيدة ليس شيئا خارجاً عنها أو ملحقا بها. وهو لم يتكىء على المرأة كعكازة فنية ليحملها رموز الوطن والثورة والمستقبل الثوري، بل جعلها تقول نفسها بنفسها مستقلةً عن أية تبعية لمرجعيات مضافة. والمرأة الرمز في الشعر العربي بعامة والسوري بخاصة - ولا سيما في مرحلتي الستينيات والسبعينيات - أصبحت تعني الابتعاد عن الأنوثة الحقيقية والنأي عن بنية المرأة المكتفية بذاتها وبعوالمها ورموزها. إن المرأة في هذا الشعر السوري بخاصة فاقدةٌ لطبيعيتها وأريحيتها وكرامتها، لا يكترث الشاعر بكيانها وحرية شخصيتها، فينظر إليها دائما مرتبطة بالوطن والأرض والاحتلال.
وأجد أن الشعر العربي الحديث في هذه المرحلة وفي علاقته بالمرأة، عاد عودةً مريعة إلى صورة المرأة التي أشرنا إليها في حينه، في القصيدة العربية في التراث القديم، وهذه ازدواجية غير مقبولة في رؤية الحداثة، ففي الوقت الذي نخرج فيه على الشكل الخارجي للقصيدة؛ نجد أننا نقلد القصيدة القديمة في طمسها لملامح المرأة / الأنثى، مع أن الظروف الاجتماعية اختلفت وانقلبت جذريا، ولكن يبدو أنه تغيير وانقلاب تناولا سطح المجتمع لا عمقه، فليس ممكنا غض النظر نق؊