كانت جدتي تدلـله باسم " نزوري " حين كان طفلا ضائعا بين أحواض الورد والخبيزة وبين عريشة الياسمين وأشجار الليمون والسفرجل ونافورة المياه الزرقاء في بيت أبويه بدمشق القديمة، وهائما مع أسراب الحمام والسنونو وقطط البيت. وعندما بلغ سن العاشرة ، لم يترك " نزار " صنعة فن لم يجربها : من الرسم إلى الخط العربي ، إلى الموسيقى، إلى أن رسا قاربه - وهو في السادسة عشرة - على شاطئ الشعر.
قبل أن يكون أبي كان صديقي، ومنه تعلمت أن أحكي بينما هو يستمع ، رغم ندرة استماع الرجل إلى المرأة في مجتمعنا. زان أبي مراهقتي وشبابي بشعره، لكنه - في المقابل وبصفاء نية - أفسد حياتي بشعره وبتعامله معي؛ فقد جعلني أقارن بينه وبين الرجال الذين ألقاهم ، وأتت المقارنة دائما لصالح أبي ، ورأيت أغلب الرجال طغاة.
كان جاري في لندن ، لكنه لم يزرني قط دون موعد مسبق. وفي نادرة ، دق بابي دون موعد ، وعندما وجد لدي صديقات اعتذر ، واستدار عائدا مؤجلا زيارته لمرة أخرى ، ولم يسبقه سوى صراخ الصديقات بأن يبقى.
قد يكون أهم ما أذكره عن أبي ، هو ذلك التشابه المذهل بينه وبين شعره ؛ فهو لا يلعب دورا على ورق الكتابة ، ودورا آخر على مسرح الحياة. ولا يضع ملابس العاشق حين يكتب قصائده، ثم يخلعها عند عودته إلى البيت.
أنقل عن " أدونيس " فقرة مما قاله عن نزار قباني :
" كان منذ بداياته الأكثر براعة بين معاصريه من الشعراء العرب، في الإمساك باللحظة - التي تمسك بهموم الناس وشواغلهم الضاغطة : من أكثرها بساطة، وبخاصة تلك المكبوتة والمهمشة ، إلى أكثرها إيغالا في الحلم وفي الحق بحياة أفضل. وفي هذا تأسست نواة الإعجاب به ، ذلك الإعجاب التلقائي الذي تجمع عليه الأطراف كلها.
ابتكر نزار قباني تقنية لغوية وكتابية خاصة ، تحتضن مفردات الحياة اليومية بتنوعها، ونضارتها ، وتشيع فيها النسم الشعري، صانعا منها قاموسا يتصالح فيه الفصيح والدارج، القديم والحديث، الشفوي والكتابي "
وبعد ، كم أشعر بالفخر لأن أبي هو نزار قباني، الشاعر الذي نقل الحب من الأقبية السرية إلى الهواء الطلق.